لا غناء للمسلمين عن السيرة النبوية وهم يعايشون القرآن الكريم وتفسيره، فالسيرة هي التطبيق العملي لما جاء في القرآن الكريم الذي لم ينزل كتابا مُجْملاً دفعة واحدة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإنما نزل القرآن الكريم منجَّما (مُفَرَّقا) على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، منذ بدء نزول الوحي إلى انقطاعه بانتقال الرسول صلى - الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى. .
ومن ثم فلابد مع القرآن والسنة أن يُتَعَّرف على سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل أحواله، في مراحل الدعوة والدولة، وفى البيت والمسجد وفى المجتمع. .
وفي دراسة السيرة النبوية ما يعين كل مسلم على فهم القرآن الكريم وتذوق روحه ومقاصده، إذ أن كثيراً من الآيات القرآنية إنما تفسرها وتجليها الأحداث التي مرت برسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ . .
فهناك من الآيات القرآنية نزلت في الغزوات والحروب، أو إثر حوادث طرأت، أو مشاكل وقعت، أو أسئلة وُجِّهت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجاءت هذه الآيات تحمل الإجابة، أو تبين الحكم والغاية والهدف، كتلك الآيات التي تتكلم عن الغزوات في سورة آل عمران والتوبة والأحزاب والفتح والحشر. .
وحتى تُفهم هذه الآيات القرآنية فهما صحيحا لا بد من دراسة السيرة النبوية والتي يتبين من خلالها أسباب نزول الكثير منها. . ومما لا ريب فيه أن معرفة أسباب النزول ضروري لمن يتصدى لتفسير كلام الله، لما هو معلوم من الارتباط بين السَبَب والمُسَّبِّب. .
قال الواحدي: " لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها ". .
وقال ابن دقيق العيد: " بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن ". .
وقال ابن تيمية: " معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ". .
وقد ألف ابن حجر كتابا خاصا في أسباب النزول سمّاه: " العجاب في بيان الأسباب "، وذكر فيه أمثلة كثيرة في أسباب نزول كثير من الآيات القرآنية من سيرة النبيـ صلى الله عليه وسلمـ ومن هذه الأمثلة التي أوردها ابن حجر في الفتح:
ذكر عند قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} (البقرة: من الآية80) من مرسل عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ وأصحابه فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة.
وسيخلفنا إليها قوم آخرون - يعنون محمداً وأصحابه - ، فقال رسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ بيده على رءوسهم: (بل أنتم فيها خالدون لا يخلفكم فيها أحد) ، فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} (البقرة: من الآية80) . .
وعند قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: من الآية195): أورد حديث أبي أيوب من طريق أبي عمران قال: كنا بالقسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم رجع مقبلا، فصاح الناس: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة.
فقال أبو أيوب: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار: إنا لما أعزَّ الله دينه وكثر ناصروه قلنا بيننا سراً: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردناها، وصح عن ابن عباس وجماعة من التابعين نحو ذلك في تأويل الآية. . ". .
ومن ثم فإن السيرة النبوية - وهي التي تجمع حياة ومواقف النبيـ صلى الله عليه وسلمـ تعطينا تفسيرا دقيقا للقرآن الكريم بعيدا عن الخطأ، لأننا حين نجمع النصوص إلى طريقة تطبيق النبيـ صلى الله عليه وسلمـ لهذه النصوص، ـ مع إيماننا المطلق بأن النبيـ صلى الله عليه وسلمـ هو أعلم أهل الأرض بمراد الله تعالى من قوله، ـ ندرك أنه ليس في إمكاننا.
فهم هذه النصوص فهماً لغويا مجردا في معزل عن طريقة تطبيق النبيـ صلى الله عليه وسلمـ لها، ونحن مأمورون في كتاب الله بطاعته واتباعه كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: من الآية80) ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 31) ، وهو القائلـ صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) رواه مسلم.
وبدراسة السِّيرة النبوية ومعرفة اتصالها وارتباطها بالقرآن الكريم يتحول الحَدَثُ إلى درس كبير متكامل يتعدَّى الظرف والمكان إلى قيامِ الساعة، وتساعد العلماء على فهم الآيات القرآنية , والاستنباط منها.
ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية، وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية. .
المصدر: موقع إسلام ويب